فصل: سورة الرحمن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة الرحمن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 78‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنُ ‏(‏1‏)‏ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ‏(‏3‏)‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏(‏4‏)‏ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏(‏5‏)‏ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ‏(‏7‏)‏ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ‏(‏8‏)‏ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ‏(‏9‏)‏ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ‏(‏10‏)‏ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ‏(‏11‏)‏ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ‏(‏12‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏13‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ‏(‏14‏)‏ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ‏(‏15‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏16‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ‏(‏17‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏18‏)‏ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏(‏19‏)‏ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ‏(‏20‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏21‏)‏ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏22‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏23‏)‏ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏24‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏25‏)‏ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏(‏26‏)‏ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏27‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏28‏)‏ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏(‏29‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏30‏)‏ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ‏(‏31‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏32‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ‏(‏33‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏34‏)‏ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ‏(‏35‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏36‏)‏ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ‏(‏37‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏38‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ‏(‏39‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏40‏)‏ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ‏(‏41‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏42‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏43‏)‏ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ ‏(‏44‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏45‏)‏ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ‏(‏46‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏47‏)‏ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ‏(‏48‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏49‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ‏(‏50‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏51‏)‏ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ‏(‏52‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏53‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏55‏)‏ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏56‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏57‏)‏ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏58‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏59‏)‏ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ‏(‏60‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏61‏)‏ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ‏(‏62‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏63‏)‏ مُدْهَامَّتَانِ ‏(‏64‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏65‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ‏(‏66‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏67‏)‏ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ‏(‏68‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏69‏)‏ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ‏(‏70‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏71‏)‏ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ‏(‏72‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏73‏)‏ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏74‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏75‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ‏(‏76‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏77‏)‏ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ‏.‏ إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير، وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة، في جميل صنعه، وإبداع خلقه؛ وفي فيض نعمائه؛ وفي تدبيره للوجود وما فيه؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم‏.‏‏.‏ وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين‏:‏ الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء، في ساحة الوجود، على مشهد من كل موجود، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله، تحدياً يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها، ويجعل الكون كله معرضاً لها، وساحة الآخرة كذلك‏.‏

ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله، وفي إيقاع فواصلها‏.‏‏.‏ تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى، وامتداد التصويت إلى بعيد؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار‏.‏‏.‏ الرحمن‏.‏‏.‏ كلمة واحدة‏.‏ مبتدأ مفرداً‏.‏‏.‏ الرحمن كلمة في معناها الرحمة، وفي رنتها الإعلان، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن‏.‏

ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان‏.‏ تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان‏.‏

ثم يذكر خلق الإنسان، ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى‏.‏‏.‏ البيان‏.‏‏.‏

ومن ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله‏.‏‏.‏ الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء المرفوعة‏.‏ والميزان الموضوع‏.‏ والأرض وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان‏.‏ والجن والإنس‏.‏ والمشرقان والمغربان‏.‏ والبحران بينهما برزخ لا يبغيان، وما يخرج منهما وما يجري فيهما‏.‏

فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار‏.‏ عرض مشهد فنائها جميعاً‏.‏ مشهد الفناء المطلق للخلائق، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي‏.‏ الذي إليه تتوجه الخلائق جميعاً، ليتصرف في أمرها بما يشاء‏.‏

وفي ظل الفناء المطلق والبقاء المطلق يجيء التهديد المروع والتحدي الكوني للجن والإنس‏:‏ ‏{‏سنفرغ لكم أيها الثقلان‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏.‏ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا‏.‏ لا تنفذون إلا بسلطان‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان، يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ثم يعرض مشهد النهاية‏.‏ مشهد القيامة‏.‏ يعرض في صورة كونية‏.‏ يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة، ومشهد العذاب للمجرمين، والثواب للمتقين في تطويل وتفصيل‏.‏

ثم يجيء الختام المناسب لمعرض الآلاء‏:‏ ‏{‏تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام‏}‏‏.‏‏.‏

إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير‏.‏ إعلان ينطلق من الملأ الأعلى، فتتجاوب به أرجاء الوجود‏.‏ ويشهده كل من في الوجود وكل ما في الوجود‏.‏‏.‏

‏{‏الرحمن‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

هذا المطلع المقصود بلفظه ومعناه، وإيقاعه وموسيقاه‏.‏

‏{‏الرحمن‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

بهذا الرنين الذي تتجاوب أصداؤه الطليقة المديدة في أرجاء هذا الكون، وفي جنبات هذا الوجود‏.‏

‏{‏الرحمن‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد، يجلجل في طباق الوجود، ويخاطب كل موجود، ويتلفت على رنته كل كائن، وهو يملأ فضاء السماوات والأرض، ويبلغ إلى كل سمع وكل قلب‏.‏‏.‏

‏{‏الرحمن‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ويسكت‏.‏ وتنتهي الآية‏.‏ ويصمت الوجود كله وينصت، في ارتقاب الخبر العظيم‏.‏ بعد المطلع العظيم‏.‏

ثم يجيء الخبر المترقب، الذي يخفق له ضمير الوجود‏.‏‏.‏

‏{‏علم القرآن‏.‏ خلق الإنسان‏.‏ علمه البيان‏.‏ الشمس والقمر بحسبان‏.‏ والنجم والشجر يسجدان‏.‏ والسمآء رفعها ووضع الميزان‏.‏ ألا تطغوا في الميزان‏.‏ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان‏.‏ والأرض وضعها للأنام‏.‏ فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام‏.‏ والحب ذو العصف والريحان‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏

هذا هو المقطع الأول في بيان آلاء الرحمن‏.‏ وهذا هو الخبر الأول بعد ذلك الإعلان‏.‏‏.‏

‏{‏علم القرآن‏}‏‏.‏‏.‏

هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان‏.‏‏.‏ القرآن‏.‏‏.‏ الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود‏.‏ ومنهج السماء للأرض‏.‏ الذي يصل أهلها بناموس الوجود‏.‏ ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم وأحوالهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود‏.‏ فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس‏.‏

القرآن الذي يفتح حواسهم ومشاعرهم على هذا الكون الجميل، كأنما يطالعهم أول مرة، فيجدد إحساسهم بوجودهم الذاتي، كما يجدد إحساسهم بالكون من حولهم‏.‏ ويزيد فيمنح كل شيء من حولهم حياة نابضة تتجاوب وتتعاطف مع البشر؛ فإذا هم بين أصدقاء، ورفاق أحباء، حيثما ساروا أو أقاموا، طوال رحلتهم على هذا الكوكب‏!‏

القرآن الذي يقرأ في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض، أنهم كرام على الله، وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال‏.‏ فيشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا، بوسيلتها الوحيدة‏.‏‏.‏ الإيمان‏.‏‏.‏ الذي يحيي في أرواحهم نفخة الله‏.‏ ويحقق نعمته الكبرى على الإنسان‏.‏

ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان‏.‏ فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان‏.‏

‏{‏خلق الإنسان علمه البيان‏}‏‏.‏‏.‏

وندع- مؤقتاً- خلق الإنسان ابتداء، فسيأتي ذكره في مكانه من السورة بعد قليل‏.‏ إذ المقصود من ذكره هنا هو ما تلاه من تعليمه البيان‏.‏

إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين، ويتفاهم، ويتجاوب مع الآخرين‏.‏‏.‏ فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا القرآن إليها، ويوقظنا لتدبرها، في مواضع شتى‏.‏

فما الإنسان‏؟‏ ما أصله‏؟‏ كيف يبدأ‏؟‏ وكيف يُعلم البيان‏؟‏

إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم‏.‏ خلية ساذجة صغيرة، ضيئلة، مهينة‏.‏ ترى بالمجهر، ولا تكاد تَبين‏.‏ وهي لا تُبين‏!‏‏!‏‏!‏

ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين‏.‏ الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة‏.‏‏.‏ عظمية‏.‏ وغضروفية‏.‏ وعضلية‏.‏ وعصبية‏.‏ وجلدية‏.‏‏.‏ ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة‏:‏ السمع‏.‏ البصر‏.‏ الذوق‏.‏ الشم‏.‏ اللمس‏.‏ ثم‏.‏‏.‏ ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم‏:‏ الإدراك والبيان، والشعور والإلهام‏.‏‏.‏ كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة، التي لا تكاد تَبين، والتي لا تُبين‏!‏

كيف‏؟‏ ومن أين‏؟‏ من الرحمن، وبصنع الرحمن‏.‏

فلننظر كيف يكون البيان‏؟‏‏:‏ ‏{‏والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب‏.‏‏.‏ اللسان والشفتان والفك والأسنان‏.‏ والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان‏.‏‏.‏ إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان‏.‏ وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب‏.‏ ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه‏.‏ ولا ندري شيئاً عن ماهيته وحقيقته‏.‏ بل لا نكاد ندري شيئاً عن عمله وطريقته‏!‏

كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد‏؟‏

إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة‏.‏ مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن‏.‏

إنها تبدأ شعوراً بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين‏.‏ هذا الشعور ينتقل- لا ندري كيف- من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية‏.‏‏.‏ المخ‏.‏‏.‏ ويقال‏:‏ إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب‏.‏ واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه‏.‏ وهنا تطرد الرئة قدراً من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتيه صنعها الإنسان، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام‏!‏ فيصوت الهواء في الحنجرة صوتاً تشكله حسبما يريد العقل‏.‏‏.‏ عالياً أو خافتاً‏.‏ سريعاً أو بطيئاً‏.‏ خشناً أو ناعماً‏.‏ ضخماً أو رفيعاً‏.‏‏.‏ إلى آخر أشكال الصوت وصفاته‏.‏ ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان، يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة‏.‏ وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغط المعين، ليصوّت الحرف بجرس معين‏.‏‏.‏

وذلك كله لفظ واحد‏.‏‏.‏ ووراءه العبارة‏.‏ والموضوع‏.‏ والفكرة‏.‏ والمشاعر السابقة واللاحقة‏.‏ وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب، بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن‏.‏

ثم يستطرد في بيان آلاء الرحمن في المعرض الكوني العام‏:‏

‏{‏الشمس والقمر بحسبان‏}‏‏.‏‏.‏

حيث تتجلى دقة التقدير، في تنسيق التكوين والحركة، بما يملأ القلب روعة ودهشة، شعوراً بضخامة هذه الإشارة، وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد عميقة الأغوار‏.‏

إن الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من أجرام‏.‏ فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدوداً، ملايين الملايين من النجوم، منها الكثير أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءاً‏.‏ فالشعرى اليمانية أثقل من الشمس بعشرين مرة، ونورها يعادل خمسين ضعف نور الشمس‏.‏ والسماك الرامح حجمه ثمانون ضعف حجم الشمس ونوره ثمانية آلاف ضعف‏.‏ وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة‏.‏

‏.‏ وهكذا‏.‏‏.‏

ولكن الشمس هي أهم نجم بالنسبة لنا- نحن سكان الكوكب الأرضي الصغير، الذي يعيش هو وسكانه جميعاً على ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها‏.‏

وكذلك القمر هو تابع صغير للأرض‏.‏ ولكنه ذو أثر قوي في حياتها‏.‏ وهو العامل الأهم في حركة الجزر والمد في البحار‏.‏

وحجم الشمس، ودرجة حرارتها، وبعدها عنا، وسيرها في فلكها‏.‏ وكذلك حجم القمر وبعده ودورته‏.‏‏.‏ كلها محسوبة حساباً كامل الدقة بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض‏.‏ وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى‏.‏

ونتاول طرفاً من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء‏.‏‏.‏

إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال‏.‏ ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخاراً يتصاعد في الفضاء‏!‏ ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة‏!‏ والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءاً من مليوني جزء من حرارتها‏.‏ وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا‏.‏ ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية، وذهبت بدداً‏!‏

وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض‏.‏ فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافياً لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها‏.‏ وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة‏!‏

وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في توازن وضعها، وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه نحو برج الجبار‏.‏ ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين‏!‏

وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة‏.‏

صدق الله العظيم‏.‏‏.‏ ‏{‏الشمس والقمر بحسبان‏}‏‏.‏

‏{‏والنجم والشجر يسجدان‏}‏‏.‏‏.‏

وقد كانت الإشارة السابقة إلى الحساب والتقدير في بناء الكون الكبير‏.‏ فأما هذه فهي إشارة إلى اتجاه هذا الكون وارتباطه‏.‏ وهي إشارة موحية إلى حقيقة هادية‏.‏

إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول، وخالقه المبدع‏.‏ والنجم والشجر نموذجان منه، يدلان على اتجاهه كله‏.‏ وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم الذي في السماء‏.‏ كما فسره بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر‏.‏ وسواء كان هذا أم كان ذاك فإن مدى الإشارة في النص واحد‏.‏ ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه‏.‏

والكون خليقة حية ذات روح‏.‏ روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن‏.‏ ولكنها في حقيقتها واحدة‏.‏

ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله‏.‏

وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه‏.‏ أدركها بالإلهام اللدني فيه‏.‏ ولكنها كانت تغيم عليه، وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس‏!‏

ولقد استطاع أخيراً أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون‏.‏ ولكنه لا يزال بعيداً عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق‏!‏

والعلم يميل اليوم إلى افتراض أن الذرة هي وحدة بناء الكون، وأنها في حقيقتها مجرد إشعاع‏.‏ وأن الحركة هي قاعدة الكون، والخاصية المشتركة بين جميع أفراده‏.‏

فإلى أين يتجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته‏؟‏

القرآن يقول‏:‏ إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه- وهي الحركة الأصيلة فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيراً عن حركة روحه- وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه ‏{‏والنجم والشجر يسجدان‏}‏‏.‏‏.‏ ومنها‏:‏ ‏{‏تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ ومنها‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صآفات‏.‏ كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏ وتأمل هذه الحقيقة، ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه، مما يمنح القلب البشري متاعاً عجيباً، وهو يشعر بكل ما حوله حياً يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها، وهي تدب فيها جميعاً، وتحيلها إخواناً له ورفقاء‏!‏

إنها إشارة ذات أبعاد وآماد وأعماق‏.‏‏.‏

‏{‏والسمآء رفعها ووضع الميزان‏.‏ ألا تطغوا في الميزان‏.‏ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان‏.‏‏}‏

والإشارة إلى السماء- كباقي الإشارات القرآنية إلى مجالي هذا الكون- تقصد إلى تنبيه القلب الغافل، وإنقاذه من بلادة الألفة، وإيقاظه لعظمة هذا الكون وتناسقه وجماله، وإلى قدرة اليد التي أبدعته وجلالها‏.‏

والإشارة إلى السماء- أياً كان مدلول السماء- توجه النظر إلى أعلى‏.‏ إلى هذا الفضاء الهائل السامق الذي لا تبدو له حدود معروفة؛ والذي تسبح فيه ملايين الملايين من الأجرام الضخمة، فلا يلتقي منها اثنان، ولا تصطدم مجموعة منها بمجموعة‏.‏ ويبلغ عدد المجموعة أحياناً ألف مليون نجم، كمجموعة المجرة التي ينتسب إليها عالمنا الشمسي، وفيها ما هو أصغر من شمسنا وما هو أكبر آلاف المرات‏.‏ شمسنا التي يبلغ قطرها مليونا وثلث مليون كيلو متر‏!‏‏!‏‏!‏ وكل هذه النجوم، وكل هذه المجموعات تجري في الكون بسرعات مخيفة، ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة، لا تلتقي، ولا تتصادم‏!‏

وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة ‏{‏وضع الميزان‏}‏ ميزان الحق‏.‏ وضعه ثابتاً راسخاً مستقراً‏.‏ وضعه لتقدير القيم‏.‏ قيم الأشخاص والأحداث والأشياء‏.‏ كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى‏.‏ وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن‏:‏

وضع الميزان‏.‏‏.‏ ‏{‏ألا تطغوا في الميزان‏}‏‏.‏

‏.‏ فتغالوا وتفرطوا‏.‏‏.‏ ‏{‏وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان‏}‏‏.‏‏.‏ ومن ثم يستقر الوزن بالقسط، بلا طغيان ولا خسران‏.‏

ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر، ببناء الكون ونظامه‏.‏ يرتبط بالسماء في مدلولها المعنوي حيث يتنزل منها وحي الله ونهجه‏.‏ ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته‏.‏‏.‏ ويلتقي هذان المدلولان في الحس بإيقاعهما وظلالهما الموحية‏.‏

‏{‏والأرض وضعها للأنام‏.‏ فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام‏.‏ والحب ذو العصف والريحان‏}‏‏.‏

ونحن لطول استقرارنا على هذه الأرض، وألفتنا لأوضاعها وظواهرها، ولوضعنا نحن كذلك عليها‏.‏ نحن لهذا كله لا نكاد نحس يد القدرة التي «وضعت» هذه الأرض للأنام‏.‏ وجعلت استقرارنا عليها ممكناً وميسوراً إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به‏.‏ ولا ننتبه إلى ضخامة معنى الاستقرار، وعظمة نعمة الله علينا فيه إلا بين الحين والحين حين يثور بركان، أو يمور زلزال، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا، فتضطرب وتمور‏.‏ عندئذ نتذكر معنى الاستقرار الذي نستمتع به على هذه الأرض بنعمة الله‏.‏

والبشر خليقون أن يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة، لو أنهم ألقوا بالهم إلى أن أرضهم هذه التي يركنون إليها، إن هي إلا هباءة سابحة في فضاء الله الوسيع‏.‏ هباءة تسبح في هذا الفضاء المطلق‏.‏ تسبح حول نفسها بسرعة نحو ألف ميل في الساعة‏.‏ وتسبح- مع هذا- حول الشمس بسرعة ستين ألف ميل في الساعة‏.‏ بينما هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها تبعد بجملتها في هذا الفضاء بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة متجهة في اتجاه واحد نحو برج الجبار في السماء‏!‏

أجل لو أنهم ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة التي تنهب الفضاء نهباً بهذه السرعة معلقة في أجوازه بغير شيء إلا قدرة الله‏.‏‏.‏ لظلوا أبداً معلقي القلوب والأبصار، واجفي الأرواح والأوصال، لا يركنون إلا للواحد القهار الذي وضع الأرض للأنام، وأقرهم عليها هذا الإقرار‏!‏‏!‏

ولقد يسر لهم فيها الحياة، وهي تدور بهم حول نفسها وحول الشمس، وتركض مع الشمس وتوابعها بتلك السرعة المذهلة‏.‏ وقدر فيها أقواتها التي يذكر منها هنا الفاكهة- ويخص منها النخل ذات الأكمام- ‏(‏والكم كيس الطلع الذي ينشأ منه الثمر‏)‏ ليشير إلى جمال هيئتها بجانب فائدة ثمرتها‏.‏ ويذكر منها الحب ذا الورق والسيقان التي تعصف وتصير طعاماً للماشية‏.‏ ويذكر منها الريحان‏.‏ النبات ذات الرائحة‏.‏‏.‏ وهي ألوان من نبات الأرض شتى‏.‏ منها ما هو طعام للإنسان ومنها ما هو طعام للدواب، ومنها ما هو روْح للناس ومتاع‏.‏

وعند هذا المقطع من تعداد أنعم الله وآلائه‏:‏ تعليم القرآن‏.‏ وخلق الإنسان‏.‏ وتعليمه البيان‏.‏ وتنسيق الشمس والقمر بحسبان‏.‏ ورفع السماء ووضع الميزان‏.‏ ووضع الأرض للأنام‏.‏ وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان‏.‏

‏.‏ عند هذا المقطع يهتف بالجن والإنسان، في مواجهة الكون وأهل الكون‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وهو سؤال للتسجيل والإشهاد‏.‏ فما يملك إنس ولا جان أن يكذب بآلاء الرحمن في مثل هذا المقام‏.‏

ثم ينتقل من الامتنان عليهما بآلاء الله في الكون، إلى الامتنان عليهما بآلائه في ذوات أنفسهما، وفي خاصة وجودهما وإنشائهما‏:‏

‏{‏خلق الإنسان من صلصال كالفخار‏.‏ وخلق الجان من مارج من نار‏.‏‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ونعمة الإيجاد والإنشاء أصل النعمة‏.‏ والمسافة بين الوجود وعدم الوجود ابتداء مسافة لا تقاس أبعادها بأي مقياس مما يألفه البشر‏.‏ فجميع المقاييس التي في أيدي البشر أو التي تدركها عقولهم، هي مقاييس للفارق بين موجود وموجود‏.‏ أما المسافة بين الموجود وغير الموجود فلا تدركها مدراك البشر بحال‏!‏ ونحسب الجن كذلك، فإن هم إلا خلق مقاييس المخلوقات‏!‏

فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد والإنشاء؛ فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك‏.‏

ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن، وهي كذلك من خلق الله‏.‏ والصلصال‏:‏ الطين إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه‏.‏ وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب‏.‏ كما أنها قد تكون تعبيراً عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين‏.‏

«وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض‏.‏ فهو يتكون من الكربون، والأكسيجين، والأيدروجين، والفسفور، والكبريت، والآزوت، والكالسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، والكلور، والمغنسيوم، والحديد، والمنجنيز، والنحاس، واليود، والفلورين، والكوبالت، والزنك، والسلكون، والألمنيوم‏.‏ وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب‏.‏ وإن اختلفت نسبها في إنسان عن الآخر، وفي الإنسان عن التراب، إلا أن أصنافها واحدة»

إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني‏.‏ فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم، أو تعني شيئاً آخر سواه‏.‏ وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب، أو طين أو صلصال‏.‏

والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري، قابل للخطأ والصواب، وقابل للتعديل والتبديل، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة‏.‏ فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية- تجريبية أو افتراضية- بنية بيان ما في القرآن من إعجاز‏.‏ فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها‏.‏ ونصوصه أوسع مدلولاً من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائماً للتبديل والتعديل، بل للخطأ والصواب من الأساس‏!‏ وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن، وهو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم‏.‏

إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه‏.‏

فأما خلق الجان من مارج من نار‏.‏ فمسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية‏.‏ والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن‏.‏ خبر الله الصادق‏.‏ الذي خلق وهو أعلم بمن خلق‏.‏‏.‏ والمارج‏:‏ المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح‏!‏ وللجان قدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس‏.‏ ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله‏.‏ فأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن كما سبق بيانه عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ صرفنآ إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن‏.‏‏.‏‏}‏ وكما هو الحال هنا في سورة الرحمن‏.‏

والخطاب هنا للجن والإنس، لتذكيرهما بنعمة الوجود‏.‏ كلٌّ من الأصل الذي أنشأه الله منه‏.‏ وهي النعمة التي تقوم عليها سائر النعم‏.‏ ومن ثم يعقب عليها بتعقيب التسجيل والإشهاد العام‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ ولا تكذيب في هذا المقام المشهود‏!‏

‏{‏رب المشرقين ورب المغربين‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏

وهذه الإشارة التي تملأ القلب بفيض غامر من الشعور بوجود الله، حيثما توجه، وحيثما تلفت، وحيثما امتد به النظر حوله في الآفاق‏.‏‏.‏ فحيث الشروق وحيث الغروب هناك الله‏.‏‏.‏ ربوبيته ومشيئته وسلطانه، ونوره وتوجيهه وهدايته‏.‏‏.‏

والمشرقان والمغربان قد يكون المقصود بهما شروق الشمس وشروق القمر‏.‏ وغروبهما كذلك، بمناسبة ذكر الشمس والقمر فيما تقدم من آلاء الله‏.‏ وقد يكون المقصود مشرقي الشمس المختلفي الموضع في الصيف والشتاء ومغربيها كذلك‏.‏

وعلى أية حال فإن ظلال هذه الإشارة هي الأولى بالالتفات‏.‏ ظلال الاتجاه إلى المشرق والمغرب، والشعور بالله هناك، والإحساس بيده تحرك الكواكب والأفلاك، ورؤية نوره وربوبيته في الآفاق هنا وهناك‏.‏ والرصيد الذي يؤوب به القلب من هذا التأمل والتدبر والنظر في المشارق والمغارب، والزاد الشعوري الذي تفيض به الجوانح وتذخره الأرواح‏.‏

وربوبية الله للمشرقين والمغربين، بعض آلائه في هذا الكون‏.‏ ومن ثم يجيء التعقيب المعهود في السورة، بعد هذه اللفتة القصيرة‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏ والمشرقان والمغربان فوق أنهما من آيات الله هما من آلاء الله على الجن والإنس، بما يتحقق فيهما من الخير لسكان هذه الأرض جميعاً‏.‏ بل من أسباب الحياة التي تنشأ مع الشروق، وتحتاج كذلك إلى الغروب‏.‏ ولو اختل أحدهما أو كلاهما لتعطلت أسباب الحياة‏.‏‏.‏

ومن هذه السبحة البعيدة الآفاق يعود إلى الأرض، وما فيها من ماء، جعله الله بقدر‏.‏ قدر في نوعه، وقدر في تصريفه، وقدر في الانتفاع به‏:‏

‏{‏مرج البحرين يلتقيان‏.‏ بينهما برزخ لا يبغيان‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏ وله الجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏

والبحران المشار إليهما هما البحر المالح والبحر العذب، ويشمل الأول البحار والمحيطات، ويشمل الثاني الأنهار‏.‏ ومرج البحرين أرسلهما وتركهما يلتقيان، ولكنهما لا يبغيان، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر، ووظيفته المقسومة، وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله‏.‏

وتقسيم الماء على هذا النحو في الكرة الأرضية لم يجيء مصادفة ولا جزافاً‏.‏ فهو مقدر تقديراً عجيباً‏.‏ الماء الملح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض؛ ويشغل اليابس الربع‏.‏ وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائماً صالحاً للحياة‏.‏

«وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور- ومعظمها سام- فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع- ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان‏.‏‏.‏ وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء- أي المحيط-»‏.‏

ومن هذه الكتلة الضخمة الواسعة تنبعث الأبخرة تحت حرارة الشمس؛ وهي التي تعود فتسقط أمطاراً يتكون منها الماء العذب في جميع أشكاله‏.‏ وأعظمها الأنهار‏.‏ والتوافق بين سعة المحيط وحرارة الشمس وبرودة طبقات الجو العليا، والعوامل الفلكية الأخرى هو الذي ينشأ عنه المطر الذي تتكون منه كتلة الماء العذب‏.‏

وعلى هذا الماء العذب تقوم الحياة، من نبات وحيوان وإنسان‏.‏‏.‏

وتصب جميع الأنهار- تقريباً- في البحار‏.‏ هي التي تنقل إليها أملاح الأرض، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغي عليها‏.‏ ومستوى سطوح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه، ولا يغمر مجاريها بمائه الملح، فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها‏!‏ وبينهما دائماً هذا البرزخ من صنع الله‏.‏ فلا يبغيان‏.‏

فلا عجب يذكر البحرين، وما بينهما من برزخ، في مجال الآلاء ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏

ثم يذكر من آلاء الله في البحرين بعض ما هو قريب منهم في حياتهم‏.‏

‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏‏.‏‏.‏

واللؤلؤ- في أصله- حيوان‏.‏ و«لعل اللؤلؤ أعجب ما في البحار، فهو يهبط إلى الأعماق، وهو داخل صدفة من المواد الجيرية لتقيه من الأخطار، ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية في تركيبه وطريقة معيشته، فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد، عجيبة النسج، تكون كمصفاة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه، وتحول بين الرمال والحصى وغيرها‏.‏ وتحت الشبكة أفواه الحيوان، ولكل فم أربع شفاه، فإذا دخلت ذرة رمل، أو قطعة حصى، أو حيوان ضار عنوة إلى الصدفة، سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة‏!‏ وعلى حسب حجم الذرة التي وصلت يختلف حجم اللؤلؤة‏!‏»‏.‏‏.‏

«والمرجان من عجائب مخلوقات الله، يعيش في البحار على أعماق تتراوح بين خمسة أمتار وثلاث مائة متر، ويثبت نفسه بطرفه الأسفل بصخر أو عشب‏.‏

وفتحة فمه التي في أعلى جسمه، محاطة بعدد من الزوائد يستعملها في غذائه‏.‏ فإذا لمست فريسة هذه الزوائد، وكثيراً ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء، أصيبت بالشلل في الحال، والتصقت بها، فتنكمش الزوائد وتنحني نحو الفم، حيث تدخل الفريسة إلى الداخل بقناة ضيقة تشبه مريء الإنسان‏.‏

«ويتكاثر هذا الحيوان بخروج خلايا تناسلية منه، يتم بها إخصاب البويضات، حيث يتكون الجنين الذي يلجأ إلى صخرة أو عشب يلتصق به، ويكون حياة منفردة، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأصلي‏.‏

» ومن دلائل قدرة الخالق، أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة أخرى هي التزرر‏.‏ وتبقى الأزرار الناتجة متحدة مع الأفراد التي تزررت منها، وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساق سميكة‏.‏ تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية الدقة في نهايتها‏.‏ ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمتراً‏.‏ والجزر المرجانية الحية ذات ألوان مختلفة، نراها في البحار صفراء برتقالية، أو حمراء قرنفلية، أو زرقاء زمردية، أو غبراء باهتة‏.‏

«والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان، وتكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة‏.‏

» ومن هذه المستعمرات سلسلة الصخور المرجانية المعروفة باسم الحاجز المرجاني الكبير، الموجود بالشمال الشرقي لأستراليا‏.‏ ويبلغ طول هذه السلسلة، ألفا و350 ميلاً وعرضها 50 ميلاً‏.‏ وهي مكونة من هذه الكائنات الحية الدقيقة الحجم «‏.‏

ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ حلى غالية الثمن عالية القيمة، ويمتن الله على عباده بهما، فيعقب على ذكرهما في السورة ذلك التعقيب المشهود‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏

ثم ينتقل إلى الفلك التي تجري في البحار، كأنها لضخامتها الجبال‏:‏

‏{‏وله الجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام‏}‏‏.‏‏.‏

ويجعل هذه الجواري المنشآت ‏{‏له‏}‏ سبحانه وتعالى‏.‏ فهي تجري بقدرته‏.‏ ولا يحفظها في خضم البحر وثبج الموج إلا حفظه ولا يقرها على سطحه المتماوج إلا كلاءته‏.‏ فهي له سبحانه‏.‏ وقد كانت- وما تزال- من أضخم النعم التي منّ الله بها على العباد، فيسرت لهم من أسباب الحياة والانتقال والرفاهية والكسب ما هو جدير بأن يذكر ولا ينكر‏.‏ فهو من الضخامة والوضوح بحيث يصعب التكذيب به والإنكار‏.‏‏.‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏

والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور، وتطوى صفحة الخلق الفاني، وتتوارى أشباح الخلائق جميعاً، ويفرغ المجال من كل حي، ويتجلى وجه الكريم الباقي، متفرداً بالبقاء، متفرداً بالجلال؛ وتستقر في الحس حقيقة البقاء، وهو يشهد ظلال الفناء‏:‏

‏{‏كل من عليها فان‏.‏ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس، وتخشع الأصوات، وتسكن الجوارح‏.‏‏.‏ وظل الفناء يشمل كل حي، ويطوي كل حركة، ويغمر آفاق السماوات والأرض‏.‏

‏.‏ وجلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح، والزمان والمكان، ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار‏.‏‏.‏

ولا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف؛ ولا يملك أن يزيد شيئاً على النص القرآني، الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع، والجلال الغامر، والصمت الرهيب، والذي يرسم مشهد الفناء الخاوي، وسكون الموت المخيم بلا حركة، ولا نأمة في هذا الكون الذي كان حافلاً بالحركة والحياة‏.‏ ويرسم في الوقت ذاته حقيقة البقاء الدائم، ويطبعها في الحس البشري لا يعرف في تجاربه صورة للبقاء الدائم؛ ولكنه يدركها بعمق في ذلك النص القرآني العجيب‏!‏

ويعقب على هذه اللمسة العميقة الأثر بنفس التعقيب‏.‏ فيعد استقرار هذه الحقيقة‏.‏ حقيقة الفناء لكل من عليها، وبقاء الوجه الجليل الكريم وحده‏.‏ يعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجه بها الجن والإنس في معرض الآلاء‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وإنها لنعمة، بل هي أساس النعم كلها جميعاً‏.‏ فمن حقيقة الوجود الباقي ينبثق كل هذا الخلق؛ وناموسه ونظامه وخصائصه‏.‏ كما تستقر سننه وقيمه ومآله وجزاؤه‏.‏ والحي الباقي هو الذي يخلق ويبدع، وهو الذي يحفظ ويكلأ، وهو الذي يحاسب ويجزي‏.‏ وهو الذي يشرف من أفق البقاء على ساحة الفناء‏.‏‏.‏ فمن حقيقة البقاء إذن تنبثق جميع الآلاء‏.‏ وما يبزغ هذا العالم وما يستقيم أمره إلا ووراءه هذه الحقيقة‏.‏ حقيقة البقاء وراء الفناء‏.‏

ومن حقيقة البقاء الدائم وراء الخلق الفاني، تنبثق حقيقة أخرى‏.‏‏.‏ فكل أبناء الفناء إنما يتجهون في كل ما يقوم بوجودهم إلى الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم‏:‏

‏{‏يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو في شأن‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏

يسأله من في السماوات والأرض، فهو مناط السؤال؛ وغيره لا يسأل لأنه فان لا يتعلق به سؤال‏.‏‏.‏ يسألونه وهو وحده الذي يستجيب، وقاصده وحده هو الذي لا يخيب‏.‏ وما يتجه احد إلى سواه إلا حين يضل عن مناط السؤال ومعقد الرجاء ومظنه الجواب‏.‏ وماذا يملك الفاني للفاني وماذا يملك المحتاج للمحتاج‏؟‏

وهو سبحانه- كل يوم هو في شأن‏.‏ وهذا الوجود الذي لا تعرف له حدود، كله منوط بقدره، متعلق بمشيئته، وهو قائم بتدبيره‏.‏ هذا التدبير الذي يتناول الوجود كله جملة؛ ويتناول كل فرد فيه على حدة، ويتناول كل عضو وكل خلية وكل ذرة‏.‏ ويعطي كل شيء خلقه، كما يعطيه وظيفته، ثم يلحظه وهو يؤدي وظيفته‏.‏

هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت وما يسقط من ورقة، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض، وكل رطب وكل يابس‏.‏ يتبع الأسماك في بحارها، والديدان في مساربها، والحشرات في مخابئها‏.‏ والوحوش في أوكارها، والطيور في أعشاشها‏.‏ وكل بيضة وكل فرخ‏.‏ وكل جناح‏.‏ وكل ريشة‏.‏ وكل خلية في جسم حي‏.‏

وصاحب التدبير لا يشغله شأن عن شأن، ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف‏.‏

ومن هذا الشأن شأن العباد في الأرض من إنس وجن‏.‏ ومن ثم فهو يواجههما بهذه النعمة مواجهة التسجيل والإشهاد‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء، وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي، وتعلق مشيئته- سبحانه- بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها، فضلاً منه ومنة على العباد‏.‏‏.‏

بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني، ومواجهة الجن والإنس به؛ ويبدأ مقطع جديد‏.‏ فيه تهديد وفيه وعيد‏.‏ تهديد مرعب مفزع، ووعيد مزلزل مضعضع‏.‏ تمهيداً لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك‏:‏

‏{‏سنفرغ لكم أيها الثقلان‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا‏.‏ لا تنفذون إلا بسلطان‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران‏.‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏

‏{‏سنفرغ لكم أيها الثقلان‏}‏‏.‏‏.‏

يا للهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان‏.‏ ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك‏!‏

الله‏.‏ جل جلاله‏.‏ الله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال‏.‏ الله- سبحانه- يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين‏:‏ الجن والإنس، في وعيد وانتقام‏!‏

إنه أمر‏.‏ إنه هول‏.‏ إنه فوق كل تصور واحتمال‏!‏

والله- سبحانه- ليس مشغولاً فيفرغ‏.‏ وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري‏.‏ وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقاً‏.‏ فهذا الوجود كله نشأ بكلمة‏.‏ كلمة واحدة‏.‏ كن فيكون‏.‏ وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر‏.‏‏.‏ فكيف يكون حال الثقلين، والله يفرغ لهما وحدهما، ليتولاهما بالانتقام‏؟‏‏!‏

وفي ظل هذا الهول الرعيب يسأل الثقلين المسكينين‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏ ‏!‏

ثم يمضي في الإيقاع المرعب المزلزل، يتحداهما أن ينفذا من أقطار السماوات والأرض‏:‏

‏{‏يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا‏}‏‏.‏‏.‏

وكيف‏؟‏ وأين‏؟‏

‏{‏لا تنفذون إلا بسلطان‏}‏‏.‏

ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان‏.‏‏.‏

ومرة أخرى يواجههما بالسؤال‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏}‏‏؟‏

وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان‏؟‏‏!‏

ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها، والتهديد الرعيب يلاحقهما، والمصير المردي يتمثل لهما‏:‏

‏{‏يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏ ‏!‏

إنها صورة من الهول فوق مألوف البشر- وفوق مألوف كل خلق- وفق تصور البشر وتصور كل خلق‏.‏ وهي صورة فريدة، وردت لها نظائر قليلة في القرآن، تشبهها ولا تماثلها‏.‏ كما قال تعالى مرة‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة‏}‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ وما يزال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنفرغ لكم أيها الثقلان‏}‏‏.‏‏.‏ أعنف وأقوى وأرعب وأدهى‏.‏

ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر‏.‏ مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة‏.‏ وما يعقبه من مشاهد الحساب‏.‏ ومشاهد العذاب والثواب‏.‏

ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني‏:‏

‏{‏فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان‏}‏‏.‏

وردة حمراء، سائلة كالدهان‏.‏‏.‏ ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن، وينسق بين مداراتها وحركاتها‏.‏ منها هذه الآية‏.‏ ومنها‏:‏ ‏{‏إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا‏}‏ ومنها‏:‏ ‏{‏فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر‏}‏ ومنها ‏{‏إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت‏.‏ وإذا العشار عطلت‏.‏ وإذا الوحوش حشرت‏.‏ وإذا البحار سجرت‏}‏ ومنها ‏{‏إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت‏.‏ وإذا البحار فجرت‏}‏ ‏{‏إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت‏.‏ وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت‏}‏ وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله‏.‏ ولا يعلم حقيقته إلا الله‏.‏‏.‏

‏{‏فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏ ولا تكذيب عندئذ ولا نكران‏.‏‏.‏

‏{‏فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏}‏‏.‏‏.‏ وذلك في موقف من مواقف ذلك اليوم المشهود‏.‏ الذي ستكون فيه مواقف شتى‏.‏ منها ما يسأل فيه العباد، ومنها ما لا يسألون فيه عن شيء‏.‏ ومنها ما تجادل كل نفس عن نفسها، وما تلقي به التبعة على شركائها، ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام‏!‏ فهو يوم طويل مديد‏.‏ وكل موقف من مواقفه هائل مشهود‏.‏

وهنا موقف‏:‏ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏.‏ ذلك حين تعرف صفة كل فرد وعمله‏.‏ وتبدو في الوجوه معالم الشقوة سواداً، ومعالم النجوة بياضاً، ويظهر هذا وذاك في سيما الوجوه‏.‏ ففي هذا الموقف هل من تكذيب ونكران‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏ ‏!‏

‏{‏يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام‏}‏‏.‏

وهو مشهد عنيف ومع العنف الهوان‏.‏ حيث تجمع الأقدام إلى الجباه، ثم يقذف المجرمون على هذه الهيئة إلى النار‏.‏‏.‏ فهل حينذلك من تكذيب أو نكران‏.‏

وبينما المشهد معروض، والأخذ بالنواصي والأقدام والقذف في النار مستمر، يلتفت السياق إلى شهود هذا الاستعراض، وكأنهم حاضرون عند تلاوة السورة فيقول لهم‏:‏

‏{‏هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون‏}‏‏.‏‏.‏ هذه هي حاضرة معروضة- كما ترون- ‏{‏يطوفون بينها وبين حميم آن‏}‏‏.‏‏.‏ متناه في الحرارة كأنه الطعام الناضج على النار‏!‏ وهم يتراوحون بين جهنم وبين هذا السائل الآني‏.‏ انظروا إنهم يطوفون الآن‏!‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏؟‏‏}‏ ‏!‏

هذه ضفة العذاب الأليم‏.‏ والآن إلى ضفة النعيم والتكريم‏:‏

‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏‏.‏‏.‏

وللمرة الأولى- فيما مر بنا من سور القرآن- تذكر الجنتان‏.‏

سورة الواقعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 96‏]‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏1‏)‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ‏(‏2‏)‏ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ‏(‏3‏)‏ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ‏(‏4‏)‏ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ‏(‏5‏)‏ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏(‏6‏)‏ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ‏(‏7‏)‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏8‏)‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏9‏)‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ‏(‏10‏)‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏11‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏12‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏14‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ‏(‏15‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ‏(‏16‏)‏ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ‏(‏17‏)‏ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏18‏)‏ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏21‏)‏ وَحُورٌ عِينٌ ‏(‏22‏)‏ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ‏(‏23‏)‏ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ‏(‏26‏)‏ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ‏(‏27‏)‏ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏(‏28‏)‏ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ‏(‏29‏)‏ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ‏(‏31‏)‏ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ‏(‏32‏)‏ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ‏(‏33‏)‏ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ‏(‏34‏)‏ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ‏(‏35‏)‏ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ‏(‏36‏)‏ عُرُبًا أَتْرَابًا ‏(‏37‏)‏ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏38‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏39‏)‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏40‏)‏ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ‏(‏41‏)‏ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ‏(‏42‏)‏ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ‏(‏43‏)‏ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ‏(‏44‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ‏(‏46‏)‏ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏47‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ‏(‏49‏)‏ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏50‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ‏(‏51‏)‏ لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ‏(‏52‏)‏ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏53‏)‏ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ‏(‏54‏)‏ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ‏(‏55‏)‏ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏56‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ‏(‏57‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ‏(‏58‏)‏ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ‏(‏59‏)‏ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏60‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ‏(‏63‏)‏ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ‏(‏64‏)‏ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ‏(‏65‏)‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ‏(‏66‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ‏(‏68‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ‏(‏69‏)‏ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ‏(‏71‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ‏(‏72‏)‏ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ‏(‏73‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ‏(‏76‏)‏ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ‏(‏77‏)‏ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ‏(‏78‏)‏ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ‏(‏79‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ‏(‏81‏)‏ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ‏(‏83‏)‏ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ‏(‏84‏)‏ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏85‏)‏ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ‏(‏86‏)‏ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏87‏)‏ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏88‏)‏ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏90‏)‏ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏91‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ‏(‏92‏)‏ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏93‏)‏ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏95‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

الواقعة‏.‏‏.‏ اسم للسورة وبيان لموضوعها معاً‏.‏ فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة، رداً على قولة الشاكين فيها، المشركين بالله، المكذبين بالقرآن‏:‏ ‏{‏أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون‏؟‏ أو آباؤنا الأولون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة‏.‏ وصفها بصفتها التي تنهي كل قول، وتقطع كل شك، وتشعر بالجزم في هذا الأمر‏.‏‏.‏ الواقعة‏.‏‏.‏ ‏{‏إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة‏}‏‏.‏‏.‏ وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم، حيث تتبدل أقدار الناس، وأوضاع الأرض، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض، كما يبدل القيم غير القيم سواء‏:‏ ‏{‏خافضة رافعة‏.‏‏.‏ إذا رجت الأرض رجاً، وبست الجبال بساً، فكانت هباء منبثاً‏.‏ وكنتم أزواجاً ثلاثة‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏

ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة‏:‏ السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة‏.‏ وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفاً مفصلاً أوفى تفصيل، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع، لا مجال للشك فيه، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان‏.‏ حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين‏.‏ وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا قبل ذلك مترفين‏.‏ وكانوا يصرون على الحنث العظيم‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون‏؟‏ أو آبآؤنا الأولون‏}‏‏.‏‏.‏ وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح‏.‏ ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب‏!‏

وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة‏.‏ ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها، متوخياً توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول؛ بلمسات مؤثرة، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان، أياً كانت بيئته، ودرجة معرفته وتجربته‏.‏

يعرض نشأتهم الأولى من منيٍّ يُمنى‏.‏ ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى، التي يعرفونها جميعاً‏.‏

ويعرض صورة الحرث والزرع، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها‏.‏ إنشاؤها بيد الله وقدرته‏.‏ ولو شاء الله لم تنشأ، ولو شاء لم تؤت ثمارها‏.‏

ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها‏.‏ وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب‏.‏ ولو شاء جعله ملحاً أجاجاً، لا ينبت حياة، ولا يصلح لحياة‏.‏

وصورة النار التي يوقدون، وأصلها الذي تنشأ منه‏.‏‏.‏ الشجر‏.‏‏.‏ وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذراً‏.‏ ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها‏.‏

وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة، يلمس بها قلوبهم، ولا يكلفهم بها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها‏.‏

كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن ‏{‏الواقعة‏}‏ فيشكون في وعيده‏.‏

فيلوح بالقسم بمواقع النجوم، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، وأنه تنزيل من رب العالمين‏.‏

ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار‏.‏ في لمسة عميقة مؤثرة‏.‏ حين تبلغ الروح الحلقوم، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين، لا يملكون له شيئاً، ولا يدرون ما يجري حوله، ولا ما يجري في كيانه‏.‏ ويخلص أمره كله لله، قبل أن يفارق هذه الحياة‏.‏ ويرى هو طريقه المقبل، حين لا يملك أن يقول شيئاً عما يرى ولا أن يشير‏!‏

ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق، وتسبيح الله الخالق‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو حق اليقين‏.‏ فسبح باسم ربك العظيم‏}‏‏.‏‏.‏ فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام‏.‏‏.‏

‏{‏إذا وقعت الواقعة‏.‏ ليس لوقعتها كاذبة‏.‏ خافضة رافعة‏.‏ إذا رجت الأرض رجاً‏.‏ وبست الجبال بَسَّا‏.‏ فكانت هبآء منبثاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل‏.‏ وهو يتبع أسلوباً خاصاً يلحظ فيه هذا المعنى، ويتناسق مع مدلولات العبارة‏.‏ فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها ‏{‏إذا وقعت الواقعة‏.‏ ليس لوقعتها كاذبة‏.‏ خافضة رافعة‏}‏‏.‏‏.‏ ولا يقول‏:‏ ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة وهي خافضة رافعة‏.‏ ولكن يبدأ حديثاً جديداً‏:‏ ‏{‏إذا رجت الأرض رجا‏.‏ وبست الجبال بسا‏.‏ فكانت هباء منبثا‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ ومرة أخرى لا يقول‏:‏ ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم‏.‏‏.‏ فكأنما هذا الهول كله مقدمة، لا يذكر نتائجها، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ، أو تعبر عنها العبارة‏!‏

هذا الأسلوب الخاص يتناسب مع الصورة المروّعة المفزِّعة التي يرسمها هذا المطلع بذاته‏.‏ فالواقعة بمعناها وبجرس اللفظ ذاته- بما فيه من مدّ ثم سكون- تلقى في الحس كأنما هي ثقل ضخم ينقض من علٍ ثم يستقر، لغير ما زحزحة بعد ذلك ولا زوال‏!‏ ‏{‏ليس لوقعتها كاذبة‏}‏‏.‏‏.‏

ثم إن سقوط هذا الثقل ووقوعة، كأنما يتوقع له الحس أرجحة ورجرجة يحدثها حين يقع‏.‏ ويلبي السياق هذا التوقع فإذا هي‏:‏ ‏{‏خافضة رافعة‏}‏ وإنها لتخفض أقداراً كانت رفيعة في الأرض، وترفع أقداراً كانت خفيضة في دار الفناء، حيث تختل الاعتبارات والقيم؛ ثم تستقيم في ميزان الله‏.‏

ثم يتبدى الهول في كيان هذه الأرض‏.‏ الأرض الثابتة المستقرة فيما يحس الناس‏.‏ فإذا هي ترج رجاً- وهي حقيقة تذكر في التعبير الذي يتسق في الحس مع وقع الواقعة- ثم إذا الجبال الصلبة الراسية تتحول- تحت وقع الواقعة- إلى فتات يتطاير كالهباء‏.‏‏.‏ ‏{‏وبست الجبال بسا‏.‏ فكانت هباء منبثاً‏}‏ فما أهول هذا الهول الذي يرج الأرض رجاً، ويبس الجبال بساً، ويتركها هباء منبثاً‏.‏

وما أجهل الذين يتعرضون له وهم مكذبون بالأخرة، مشركون بالله، وهذا أثره في الأرض والجبال‏!‏

وهكذا تبدأ السورة بما يزلزل الكيان البشري، ويهول الحس الإنساني، تجاه القضية التي ينكرها المنكرون، ويكذب بها المشركون‏.‏ وينتهي هذا المشهد الأول للواقعة لنشهد آثارها في الخفض والرفع، وفي أقدار البشر ومصائرهم الأخيرة‏:‏

‏{‏وكنتم أزواجاً ثلاثة‏.‏ فأصحاب الميمنة‏.‏ ما أصحاب الميمنة‏؟‏ وأصحاب المشأمة‏.‏ ما أصحاب المشأمة‏؟‏ والسابقون السابقون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ونجد الناس هنا أصنافاً ثلاثة- لا صنفين اثنين كما هو السائد في مشاهد الاستعراض القرآنية- ويبدأ بالحديث عن أصحاب الميمنة- أو أصحاب اليمين- ولكنه لا يفصل عنهم الحديث إنما يصفهم باستفهام عنهم للتهويل والتضخيم‏:‏ ‏{‏فأصحاب الميمنة‏.‏ ما أصحاب الميمنة‏؟‏‏}‏‏.‏ وكذلك يذكر أصحاب المشأمة بنفس الأسلوب‏.‏ ثم يذكر الفريق الثالث، فريق السابقين، يذكرهم فيصفهم بوصفهم‏:‏ ‏{‏والسابقون السابقون‏}‏‏.‏‏.‏ كأنما ليقول إنهم هم هم‏.‏ وكفى‏.‏ فهو مقام لا يزيده الوصف شيئاً‏!‏

ومن ثم يأخذ في بيان قدرهم عند ربهم، وتفصيل ما أعده من النعيم لهم، وتعديد أنواعه التي يمكن أن يدركها حس المخاطبين، وتتناوله معارفهم وتجاربهم‏:‏

‏{‏أولئك المقربون‏.‏ في جنات النعيم‏.‏ ثلة من الأولين‏.‏ وقليل من الآخرين‏.‏ على سرر موضونة‏.‏ متكئين عليها متقابلين‏.‏ يطوف عليهم ولدان مخلدون‏.‏ بأكواب وأباريق وكأس من معين‏.‏ لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزفون‏.‏ وفاكهة مما يتخيرون‏.‏ ولحم طير مما يشتهون‏.‏ وحور عين‏.‏ كأمثال اللؤلؤ المكنون‏.‏ جزآء بما كانوا يعملون‏.‏ لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً‏.‏ إلا قيلاً سلاماً سلاماً‏}‏

إنه يبدأ في بيان هذا النعيم، بالنعيم الأكبر‏.‏ النعيم الأسنى‏.‏ نعيم القرب من ربهم‏:‏

‏{‏أولئك المقربون في جنات النعيم‏}‏‏.‏‏.‏ وجنات النعيم كلها لا تساوي ذلك التقريب، ولا تعدل ذلك النصيب‏.‏

ومن ثم يقف عند هذه الدرجة ليقول من هم أصحابها‏.‏‏.‏ إنهم ‏{‏ثلة من الأولين وقليل من الآخرين‏}‏‏.‏‏.‏ فهم عدد محدود‏.‏ وفريق منتقى‏.‏ كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين‏.‏ واختلفت الروايات في من هم الأولون ومن هم الآخرون‏.‏ فالقول الأول‏:‏ إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام‏.‏ وإن الآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه‏.‏‏.‏ والقول الثاني‏:‏ إن الأولين والآخرين هم من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فالأولون من صدرها، والآخرون من متأخريها‏.‏ وهذا القول الثاني رجحه ابن كثير‏.‏ وروى في ترجيحه للحسن وابن سيرين‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد ابن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا عبد الله بن أبي بكر المزني، سمعت الحسن أتى على هذه الآية‏:‏ ‏{‏والسابقون السابقون أولئك المقربون‏}‏ فقال‏:‏ «أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين» ثم قال‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السري بن يحيى‏.‏ قال‏:‏ قرأ الحسن‏:‏ ‏{‏والسابقون السابقون‏.‏

أولئك المقربون في جنات النعيم‏.‏ ثلة من الأولين‏}‏‏.‏‏.‏ قال‏:‏ ثلة ممن مضى من هذه الأمة‏.‏‏.‏ وحدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري، حدثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين‏}‏‏.‏‏.‏ قال‏:‏ كانوا يقولون، أو يرجون، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة‏.‏

وبعد بيان من هم يأخذ في تفصيل مناعم الجنة التي أعدت لهم‏.‏ وهي بطبيعة الحال المناعم التي في طوقهم أن يتصوروها ويدركوها؛ ووراءها مناعم أخرى يعرفونها هنالك يوم يتهيأون لإدراكها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‏!‏

‏{‏على سرر موضونة‏}‏‏.‏‏.‏ مشبكة بالمعادن الثمينة‏.‏ ‏{‏متكين عليها متقابلين‏}‏‏.‏ في راحة وخلو بال من الهموم والمشاغل، وفي طمأنينة على ما هم فيه من نعيم، ولا خوف من فوته ولا نفاده وفي إقبال بعضهم على بعض يتسامرون‏.‏‏.‏ ‏{‏يطوف عليهم ولدان مخلدون‏}‏‏.‏‏.‏ لا يفعل فيهم الزمن، ولا تؤثر في شبابهم وصباحتهم السن كأشباههم في الأرض‏.‏ يطوفون عليهم ‏{‏بأكواب وأباريق وكأس من معين‏}‏‏.‏‏.‏ من خمر صافية سائغة ‏{‏لا يُصَدَّعون عنها ولا ينزفون‏}‏‏.‏‏.‏ فلا هم يفرقون عنها ولا هي تنفد من بين أيديهم‏.‏ فكل شيء هنا للدوام والأمان‏.‏ ‏{‏وفاكهة مما يتخيرون‏.‏ ولحم طير مما يشتهون‏}‏‏.‏‏.‏ فهنا لا شيء ممنوع، ولا شيء على غير ما يشتهي السعداء الخالدون‏.‏ ‏{‏وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون‏}‏‏.‏‏.‏ واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون، الذي لم يتعرض للمس والنظر، فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين‏!‏ وفي هذا كناية عن معان حسية ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون‏.‏ وذلك كله‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏ فهو مكافأة على عمل كان في دار العمل‏.‏ مكافأة يتحقق فيها الكمال الذي كان ينقص كل المناعم في دار الفناء‏.‏ ثم هم بعد ذلك كله يحيون في هدوء وسكون، وفي ترفع وتنزيه عن كل لغو في الحديث، وكل جدل وكل مؤاخذة‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً‏.‏ إلا قيلاً سلاماً سلاماً‏}‏‏.‏‏.‏ حياتهم كلها سلام‏.‏ يرف عليها السلام ويشيع فيها السلام‏.‏ تسلم عليهم الملائكة في ذلك الجو الناعم الآمن؛ ويسلم بعضهم على بعض‏.‏ ويبلغهم السلام من الرحمن‏.‏ فالجو كله سلام سلام‏.‏‏.‏

فإذا انتهى الحديث عن ذلك الفريق السابق المختار، بدأ الحديث عن الفريق الذي يليه‏:‏ فريق أصحاب اليمين‏:‏

‏{‏وأصحاب اليمين‏.‏ مآ أصحاب اليمين‏؟‏ في سدر مخضود، وطلح منضود‏.‏ وظل ممدود‏.‏ ومآء مسكوب‏.‏ وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة‏.‏ وفرش مرفوعة‏.‏ إنآ أنشأناهن إنشآءً‏.‏ فجعلناهن أبكاراً‏.‏ عرباً أتراباً‏.‏ لأصحاب اليمين‏.‏ ثلة من الأولين‏.‏ وثلة من الآخرين‏}‏

وأصحاب اليمين هم أصحاب الميمنة الذين أشار إليهم تلك الإشارة المجملة في أول السورة‏.‏ ثم أخر تفصيل نعيمهم، إلى موعده هنا بعد السابقين المقربين‏.‏ وهو يعيد السؤال عنهم بتلك الصيغة التي تفيد التفخيم والتهويل‏:‏ ‏{‏ما أصحاب اليمين‏؟‏‏}‏‏.‏

ولأصحابنا هؤلاء نعيم مادي محسوس، يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة، ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصور ألوان النعيم‏!‏

إنهم ‏{‏في سدر مخضود‏}‏‏.‏‏.‏ والسدر شجر النبق الشائك‏.‏ ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع‏.‏ ‏{‏وطلح منضود‏}‏‏.‏‏.‏ والطلح شجر من شجر الحجاز من نوع العضاة فيه شوك‏.‏ ولكنه هنا منضود معد للتناول بلا كدٍ ولا مشقة‏.‏ ‏{‏وظل ممدود، وماء مسكوب‏}‏‏.‏‏.‏ وتلك جميعاً من مراتع البدوي ومناعمه، كما يطمح إليها خياله وتهتف بها أشواقه‏!‏ ‏{‏وفاكهة كثيرة‏.‏ لا مقطوعة ولا ممنوعة‏}‏‏.‏‏.‏ تركها مجملة شاملة بغير تفصيل بعد ما ذكر الأنواع المعروفة لسكان البادية بالتعيين‏.‏ ‏{‏وفرش مرفوعة‏}‏‏.‏‏.‏ وهي هنا لا موضونة ولا ناعمة‏.‏ وبحسبها أنها مرفوعة‏.‏ وللرفع في الحس معنيان‏.‏ مادي ومعنوي يستدعي أحدهما الآخر، ويلتقيان عند الارتفاع في المكان والطهارة من الدنس‏.‏ فالمرفوع عن الأرض أبعد عن نجسها‏.‏ والمرفوع في المعنى أبعد عن دنسها‏.‏ ولهذا ينتقل السياق من الفرش المرفوعة إلى ذكر من فيها من الأزواج‏:‏ ‏{‏إنا أنشأناهن إنشاءً‏}‏ إما ابتداء وهن الحور‏.‏ وإما استئنافاً وهن الزوجات المبعوثات شواب‏:‏ ‏{‏فجعلناهن أبكاراً‏}‏ لم يمسسن ‏{‏عرباً‏}‏‏.‏‏.‏ متحببات إلى أزواجهن ‏{‏أتراباً‏}‏ متوافيات السن والشباب‏.‏ ‏{‏لأصحاب اليمين‏}‏‏.‏‏.‏ مخصصات لهم‏.‏ ليتسق ذلك مع ‏{‏الفرش المرفوعة‏}‏‏.‏‏.‏

فأما أصحاب اليمين هؤلاء فهم ‏{‏ثلثة من الأولين وثلة من الآخرين‏}‏‏.‏‏.‏ فهم أكثر عدداً من السابقين المقربين‏.‏ على الاعتبارين اللذين ذكرناهما في معنى الأولين والآخرين‏.‏

وهنا يصل بنا السياق إلى أصحاب الشمال- وهم أصحاب المشأمة الذين سبقت الإشارة إليهم في مطلع السورة‏:‏

‏{‏وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال‏؟‏ في سموم وحميم‏.‏ وظل من يحموم‏.‏ لا بارد ولا كريم‏.‏ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين‏.‏ وكانوا يصرون على الحنث العظيم‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون‏؟‏ أو آبآؤنا الأولون‏؟‏ قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم‏.‏ ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون‏.‏ لآكلون من شجر من زقوم‏.‏ فمالئون منها البطون‏.‏ فشاربون عليه من الحميم‏.‏ فشاربون شرب الهيم‏.‏ هذا نزلهم يوم الدين‏}‏‏.‏‏.‏

فلئن كان أصحاب اليمين في ظل ممدود وماء مسكوب‏.‏‏.‏ فأصحاب الشمال ‏{‏في سموم وحميم‏.‏ وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم‏}‏‏.‏‏.‏ فالهواء شواظ ساخن ينفذ إلى المسام ويشوي الأجسام‏.‏ والماء متناه في الحرارة لا يُبرد ولا يُروي‏.‏ وهناك ظل‏!‏ ولكنه ‏{‏ظل من يحموم‏}‏‏.‏‏.‏ ظل الدخان اللافح الخانق‏.‏‏.‏ إنه ظل للسخرية والتهكم‏.‏ ظل ‏{‏لا بارد ولا كريم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو ظل ساخن لا روْح فيه ولا برد؛ وهو كذلك كز لا يمنح وراده راحة ولا إنعاشاً‏!‏‏.‏‏.‏ هذا الشظف كله جزاء وفاق‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا قبل ذلك مترفين‏}‏‏.‏‏.‏ وما آلم الشظف للمترفين‏!‏ ‏{‏وكانوا يصرون على الحِنث العظيم‏}‏‏.‏‏.‏ والحنث الذنب‏.‏ وهو هنا الشرك بالله‏.‏

وفيه إلماع إلى الحنث بالعهد الذي أخذه الله على فطرة العباد أن يؤمنوا به ويوحدوه‏.‏ ‏{‏وكانوا يقولون‏:‏ أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون‏؟‏ أو آباؤنا الأولون‏؟‏‏}‏ كانوا‏.‏‏.‏‏.‏ هكذا يعبر القرآن، كأنما الدنيا التي فيها المخاطبون قد طويت وانتهت فإذا هي ماض‏.‏ والحاضر هو هذا المشهد وهذا العذاب‏!‏ ذلك أن الدنيا كلها ومضة‏.‏ وهذا الحاضر هو العقبى والمآب‏.‏

وهنا يلتفت السياق إلى الدنيا في أنسب الأوقات لهذه اللفتة ليرد على سؤالهم ذاك‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم‏}‏‏.‏‏.‏ هو هذا اليوم الحاضر المعروض المشهود‏!‏

ثم يعود إلى ما ينتظر المكذبين‏.‏ فيتم صورة العذاب الذي يلقاه المترفون‏:‏

‏{‏ثم إنكم أيها الضالون المكذبون‏.‏ لآكلون من شجر زقوم‏}‏‏.‏‏.‏ ولا يدري أحد ما شجرة الزقوم إلا ما وصفها الله به في سورة أخرى من أن طلعها كرؤوس الشياطين‏.‏ ورؤوس الشياطين لم يرها أحد ولكنها تلقي في الحس ما تلقيه‏!‏ على أن لفظ ‏{‏الزقوم‏}‏ نفسه يصور بجرسه ملمساً خشناً شائكاً مدبباً يشوك الأكف- بله الحلوق- وذلك في مقابل السدر المخضود والطلح المنضود- ومع أن الزقوم كرؤوس الشياطين‏!‏ فإنهم لآكلون منها ‏{‏فمالئون منها البطون‏}‏‏.‏‏.‏ فالجوع طاغ والمحنة غالبة‏.‏‏.‏ وإن الشوك الخشن ليدفع إلى الماء لتسليك الحلوق وري البطون‏!‏ وإنهم لشاربون ‏{‏فشاربون عليه من الحميم‏}‏‏.‏‏.‏ الساخن الذي لا يبرد غلة ولا يروي ظمأ‏.‏ ‏{‏فشاربون شرب الهيم‏}‏‏.‏‏.‏ وهي الإبل المصابة بداء الاستسقاء لا تكاد ترتوي من الماء‏!‏ ‏{‏هذا نزلهم يوم الدين‏}‏‏.‏‏.‏ والنزل للراحة والاستقرار‏.‏ ولكن أصحاب الشمال هذا نزلهم الذي لا راحة فيه ولا قرار‏!‏ هذا نزلهم في اليوم الذي كانوا يشكون فيه، ويتساءلون عنه، ولا يصدقون خبر القرآن به‏.‏ كما كانوا يشركون بالله ولا يخافون وعيده بذلك اليوم المشهود‏.‏‏.‏

بهذا ينتهي استعراض المصائر والأقدار، يوم تقع الواقعة‏.‏ الخافضة الرافعة‏.‏ وينتهي كذلك الشوط الأول من السورة‏.‏

فأما الشوط الثاني في السورة فيستهدف بناء العقيدة بكليتها، وإن كان التوكيد البارز فيه على قضية البعث والنشأة الأخرى‏.‏ وفيه تتجلى طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية، وفي تناول الدلائل الإيمانية، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة‏.‏‏.‏

إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة، قضايا كونية كبرى؛ يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود؛ وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود‏.‏ كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس‏.‏ يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها؛ ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها‏!‏

إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة‏.‏ كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم‏.‏

‏.‏ إنه لا يُبعد لهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد‏.‏‏.‏ لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة، وتصوراً للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة‏.‏

إن أنفسهم من صنع الله؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته‏.‏ والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده‏.‏ وهذا القرآن قرآنه‏.‏ ومن يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم‏.‏ يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها‏.‏ لأنهم لطول ألفتهم لها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها‏.‏ يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها؛ فتطلع على السر الهائل المكنون فيها‏.‏ سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم؛ والذي يحمل دلائل الإيمان، وبراهين العقيدة، فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق‏.‏

وعلى هذا المنهج يسير في هذا الشوط من السورة؛ وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم‏.‏ وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم‏.‏ وفي الماء الذي يشربون‏.‏ وفي النار التي يوقدون- وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم- كذلك يصور لهم لحظة النهاية‏.‏ نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر‏.‏ اللحظة التي يواجهها كل أحد، والتي تنتهي عندها كل حيلة، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة، لا محاولة فيها ولا مجال‏!‏ حيث تسقط جميع الأقنعة، وتبطل جميع التعلات‏.‏

إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره‏.‏‏.‏ إنه المصدر الذي صدر منه الكون‏.‏ فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون‏.‏ فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق‏.‏‏.‏ الذرة يظن أنها مادة بناء الكون، والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة‏.‏‏.‏ والذرة على صغرها معجزة في ذاتها‏.‏ والخلية على ضآلتها آية في ذاتها‏.‏‏.‏ وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني‏.‏‏.‏ المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان‏:‏ النسل‏.‏ والزرع‏.‏ والماء‏.‏ والنار‏.‏ والموت‏.‏‏.‏ أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه‏؟‏ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة نبتة‏.‏ ومسقط ماء‏.‏ وموقد نار‏.‏ ولحظة وفاة‏؟‏‏.‏‏.‏ من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة‏.‏‏.‏ وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية، وأعظم الأسرار الربانية- بالإضافة إلى الإشارة إلى مواقع النجوم- فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان‏.‏ وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان‏:‏

مواقع النجوم تعني هندسة الكون‏.‏

نشأة الحياة الإنسانية‏.‏‏.‏ وهي سر الأسرار‏.‏

نشأة الحياة النباتية‏.‏‏.‏ وهي كالحياة الحيوانية معجزة المعجزات‏.‏

والماء‏.‏‏.‏ أصل الحياة‏.‏

والنار‏.‏‏.‏ المعجزة التي صنعت الحضارة الإنسانية‏.‏

هذه الطريقة في تناول الأشياء، وبناء العقيدة والتفكير، ليست طريقة البشر‏.‏ فالبشر حين يخوضون في هذه المجلات لا يلتفتون إلى هذه المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية‏.‏ وإذا التفتوا إليها لم يتناولوها بهذا اليسر وبهذه البساطة‏.‏ بل يحاولون وضع المسألة في قالب فلسفي تجريدي معقد لا يصلح إلا لخطاب طبقة خاصة من الناس‏!‏

أما الله فطريقته هي هذه‏.‏‏.‏ تناول المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية‏.‏ وبناء العقيدة بها في يسر وسهولة‏.‏ تماماً كما يصنع- سبحانه- في تناول المواد الأولية التي هي مواد كونية ويصنع منها الكون‏.‏‏.‏

هذا من ذاك‏.‏ وعلامة الصنعة واحدة، واضحة هنا وهناك‏!‏

‏{‏نحن خلقناكم فلولا تصدقون‏!‏ أفرأيتم ما تمنون‏؟‏ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون‏؟‏ نحن قدرنا بينكم الموت، وما نحن بمسبوقين‏.‏ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون‏.‏ ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون‏!‏‏}‏

إن هذا الأمر أمر النشأة الأولى ونهايتها‏.‏ أمر الخلق وأمر الموت‏.‏ إنه أمر منظور ومألوف وواقع في حياة الناس‏.‏ فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم‏؟‏ إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري أو يجادل فيه‏:‏ ‏{‏نحن خلقناكم فلولا تصدقون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏أفرأيتم ما تمنون‏؟‏ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يُمنى رحمَ امرأة‏.‏ ثم ينقطع عمله وعملها‏.‏ وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين‏.‏ تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه‏.‏ ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله‏.‏ والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها؛ كما لا يعرفون كيف تقع‏.‏ بله أن يشاركوا فيها‏!‏

وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان‏.‏ وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها‏.‏ ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى، إلى أن تصير خلقاً، قصة أغرب من الخيال‏.‏ قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلاً، ويشهد وقوعها كل إنسان‏!‏

هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا‏.‏ كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى؛ لأنها مكلفة أن تنشئ جانباً خاصاً من المخلوق البشري‏!‏ فهذه خلايا عظام‏.‏ وهذه خلايا عضلات‏.‏ وهذه خلايا جلد‏.‏ وهذه خلايا أعصاب‏.‏‏.‏ ثم‏.‏‏.‏ هذه خلايا لعمل عين‏.‏ وهذه خلايا لعمل لسان‏.‏ وهذه خلايا لعمل أذن‏.‏

وهذه خلايا لعمل غدد‏.‏‏.‏ وهي أكثر تخصصاً من المجموعات السابقة‏.‏‏.‏ وكل منها تعرف مكان عملها، فلا تخطئ خلايا العين مثلاً، فتطلع في البطن أو في القدم‏.‏ مع أنها لو أخذت أخذاً صناعياً فزرعت في البطن مثلاً صنعت هنالك عيناً‏!‏ ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك‏!‏ ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذناً هناك‏.‏‏.‏ إنها كلها تعمل وتنشئ هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال

هذه هي البداية‏.‏ أما النهاية فلا تقل عنها إعجازاً ولا غرابة‏.‏ وإن كانت مثلها من مشاهدات البشر المألوفة‏:‏

‏{‏نحن قدرنا بينكم الموت، وما نحن بمسبوقين‏}‏‏.‏‏.‏

هذا الموت الذي ينتهي إليه كل حي‏.‏‏.‏ ما هو‏؟‏ وكيف يقع‏؟‏ وأي سلطان له لا يقاوم‏؟‏

إنه قدر الله‏.‏‏.‏ ومن ثم لا يفلت منه أحد، ولا يسبقه فيفوته أحد‏.‏‏.‏ وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بد أن تتكامل‏.‏‏.‏

‏{‏على أن نبدل أمثالكم‏}‏‏.‏‏.‏

لعمارة الأرض والخلافة فيها بعدكم‏.‏ والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة‏.‏ قدر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا‏.‏‏.‏ فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى‏:‏

‏{‏وننشئكم فيما لا تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

في ذلك العالم المغيب المجهول، الذي لا يدري عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله‏.‏ وعندئذ تبلغ النشأة تمامها، وتصل القافلة إلى مقرها‏.‏

هذه هي النشأة الآخرة‏.‏‏.‏ ‏{‏ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ فهي قريب من قريب‏.‏ وليس فيها من غريب‏.‏

بهذه البساطة وبهذه السهولة يعرض القرآن قصة النشأة الأولى والنشأة الآخرة‏.‏ وبهذه البساطة وهذه السهولة يقف الفطرة أمام المنطق الذي تعرفه، ولا تملك أن تجادل فيه‏.‏ لأنه مأخوذ من بديهياتها هي، ومن مشاهدات البشر في حياتهم القريبة‏.‏ بلا تعقيد‏.‏ ولا تجريد‏.‏ ولا فلسفة تكد الأذهان، ولا تبلغ إلى الوجدان‏.‏‏.‏

إنها طريقة الله‏.‏ مبدع الكون، وخالق الإنسان، ومنزل القرآن‏.‏‏.‏

ومرة أخرى في بساطة ويسر يأخذ بقلوبهم إلى أمر مألوف لهم، مكرر في مشاهداتهم، ليريهم يد الله فيه؛ ويطلعهم على المعجزة التي تقع بين أيديهم، وعلى مرأى من عيونهم، وهم عنها غافلون‏:‏

‏{‏أفرأيتم ما تحرثون‏؟‏ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون‏؟‏ لو نشاء لجعلناه حطاماً، فظلتم تفكهون‏:‏ إنا لمغرمون‏.‏ بل نحن محرومون‏}‏‏.‏‏.‏

هذا الزرع الذي ينبت بين أيديهم وينمو ويؤتي ثماره‏.‏ ما دورهم فيه‏؟‏ إنهم يحرثون ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله‏.‏ ثم ينتهي دورهم وتأخذ يد القدرة في عملها المعجز الخارق العجيب‏.‏

تأخذ الحبة أو البذرة طريقها لإعادة نوعها‏.‏ تبدؤه وتسير في سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق‏!‏ الذي لا يخطئ مرة كما يخطئ الإنسان في عمله، ولا ينحرف عن طريقه، ولا يضل الهدف المرسوم‏!‏ إن يد القدرة هي التي تتولى خطاها على طول الطريق‏.‏

‏.‏ في الرحلة العجيبة‏.‏ الرحلة التي ما كان العقل ليصدقها، وما كان الخيال ليتصورها، لولا أنها حدثت وتحدث ويراها كل إنسان في صورة من الصور، ونوع من الأنواع‏.‏‏.‏ وإلا فأي عقل كان يصدق، وأي خيال كان يتصور أن حبة القمح مثلاً يكمن فيها هذا العود وهذا الورق، وهذه السنبلة، وهذا الحب الكثير‏؟‏‏!‏ أو أن النواة تكمن فيها نخلة كاملة سامقة بكل ما تحتويه‏؟‏‏!‏

أي عقل كان يمكن أن يتطاول به الخيال إلى تصور هذه العجيبة‏.‏ لولا أنه يراها تقع بين يديه صباح مساء‏؟‏ ولولا أن هذه القصة تتكرر على مرأى ومسمع من جميع الناس‏؟‏ وأي إنسان يمكنه أن يدعي أنه صنع شيئاً في هذه العجيبة سوى الحرث وإلقاء البذور التي صنعها الله‏؟‏

ثم يقول الناس‏:‏ زرعنا‏!‏‏!‏ وهم لم يتجاوزوا الحرث وإلقاء البذور‏.‏ أما القصة العجيبة التي تمثلها كل حبة وكل بذرة‏.‏ وأما الخارقة التي تنبت من قلبها وتنمو وترتفع فكلها من صنع الخالق الزارع‏.‏ ولو شاء لم تبدأ رحلتها‏.‏ ولو شاء لم تتم قصتها‏.‏ ولو شاء لجعلها حطاماً قبل أن تؤتى ثمارها‏.‏ وهي بمشيئته تقطع رحلتها، من البدء إلى الختام‏!‏

ولو وقع هذا لظل الناس يلونون الحديث وينوعونه يقولون‏:‏ ‏{‏إنا لمغرمون‏}‏‏:‏ غارمون ‏{‏بل نحن محرومون‏}‏‏.‏‏.‏ ولكن فضل الله يمنحهم الثمر، ويسمح للنبتة أن تتم دورتها، وتكمل رحلتها، وهي ذاتها الرحلة التي تقوم بها الخلية التي تمنى‏.‏‏.‏ وهي صورة من صور الحياة التي تنشئها القدرة وترعاها‏.‏

فماذا في النشأة الأخرى من غرابة‏.‏ وهذه هي النشأة الأولى‏؟‏‏.‏‏.‏

‏{‏أفرأيتم الماء الذي تشربون‏؟‏ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون‏؟‏ لو نشاء جعلناه أجاجاً‏.‏ فلولا تشكرون‏}‏ ‏!‏

وهذا الماء أصل الحياة، وعنصرها الذي لا تنشأ إلا به كما قدر الله‏.‏ ما دور الإنسان فيه‏؟‏ دوره أنه يشربه‏.‏ أما الذي أنشأه من عناصره، وأما الذي أنزله من سحائبه، فهو الله سبحانه‏.‏ وهو الذي قدر أن يكون عذباً فكان ‏{‏لو نشاء جعلناه أجاجاً‏}‏‏.‏ مالحاً لا يستساغ، ولا ينشئ حياة‏.‏ فهلا يشكرون فضل الله الذي أجرى مشيئته بما كان‏؟‏

والمخاطبون ابتداء بهذا القرآن كان الماء النازل من السحائب، في صورته المباشرة، مادة حياتهم، وموضع احتفالهم، والحديث الذي يهز نفوسهم، وقد خلدته قصائدهم وأشعارهم‏.‏‏.‏ ولم تنقص قيمة الماء بتقدم الإنسان الحضاري، بل لعلها تضاعفت‏.‏ والذين يشتغلون بالعلم ويحاولون تفسير نشأة الماء الأولى أشد شعوراً بقيمة هذا الحدث من سواهم‏.‏ فهو مادة اهتمام للبدائي في الصحراء، وللعالم المشتغل بالأبحاث سواء‏.‏

‏{‏أفرأيتم النار التي تورون‏؟‏ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون‏؟‏ نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان كشف الإنسان للنار حادثاً عظيماً في حياته‏.‏ ربما كان أعظم حادث بدأت منه حضارته‏.‏

ولكنها أصبحت أمراً مألوفاً لا يثير الاهتمام‏.‏‏.‏ والإنسان يوري النار‏:‏ أي‏:‏ يوقدها‏.‏ ولكن من الذي أنشأ وقودها‏؟‏ من الذي أنشأ الشجر الذي توقد به النار‏؟‏ لقد مر حديث الزرع‏.‏ والشجر من هذا الزرع‏.‏‏.‏ على أن هناك لفتة أخرى في ذكر ‏{‏شجرتها‏}‏‏.‏ فمن احتكاك فرع من شجرة بفرع آخر من شجرة أخرى كان العرب يوقدون نارهم‏.‏ على الطريقة البدائية التي لا تزال مستعملة في البيئات البدائية حتى الآن‏.‏ فالأمر أظهر وأقرب إلى تجاربهم المعروفة‏.‏ أما معجزة النار وسرها عند العلماء الباحثين فهو مجال للبحث والنظر والاهتمام‏.‏ وبمناسبة ذكر النار يلمع السياق إلى نار الآخرة‏:‏ ‏{‏نحن جعلناها تذكرة‏}‏ تذكر بالنار الأخرى‏.‏‏.‏ كما جعلناها ‏{‏متاعاً للمقوين‏}‏‏.‏‏.‏ أي للمسافرين‏.‏ وكان لهذه الإشارة وقعها العميق في نفوس المخاطبين، لما تمثله في واقع حياتهم من مدلول حي حاضر في تجاربهم وواقعهم‏.‏

وحين يبلغ السياق إلى هذا الحد من عرض هذه الحقائق والأسرار، الناطقة بدلائل الإيمان‏.‏ الميسرة للقلوب والأذهان‏.‏ يلتفت إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق‏.‏ حقيقة وجود الله وعظمته وربوبيته‏.‏ وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان‏.‏ فيهيب بالرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها؛ ويلمس القلوب بها في حينها‏:‏

‏{‏فسبح باسم ربك العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يلتفت التفاتة أخرى إلى المكذبين بهذا القرآن؛ فيربط بينه وبين هذا الكون في قسم عظيم من رب العالمين‏:‏

‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم- وإنه لقسم لو تعلمون عظيم- إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون‏.‏ تنزيل من رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل، الذي يدركونه بعيونهم المجردة‏.‏ ومن ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏وإنه لقسم- لو تعلمون- عظيم‏}‏‏.‏‏.‏ فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به، نصيباً أكبر بكثير مما كانوا يعلمون‏.‏ وإن كنا نحن أيضاً لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم‏.‏‏.‏

وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة، المحدودة المناظير، يقول لنا‏:‏ إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدوداً‏.‏ مجموعة واحدة- هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية- تبلغ الف مليون نجم‏!‏

«ويقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه‏.‏ هذه كلها تسبح في الفلك الغامض؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة‏.‏

وهو احتمال بعيد، وبعيد جداً‏.‏ إن لم يكن مستحيلاً «

وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته، قد وضع هناك بحكمة وتقدير‏.‏ وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل‏.‏

فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم، وهو أكبر كثيراً جداً مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة‏.‏ وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة مواقع النجوم‏!‏

‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏‏.‏‏.‏ فالأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم‏.‏‏.‏ ‏{‏وإنه لقسم لو تعلمون عظيم‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا التلويح بالقسم والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم لأنها ثابتة واضحة‏.‏‏.‏

‏{‏إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون‏.‏ تنزيل من رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لقرآن كريم‏.‏ وليس كما تدعون قول كاهن، ولا قول مجنون، ولا مفترى على الله‏.‏ من أساطير الأولين‏.‏ ولا تنزلت به الشياطين‏!‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه الأقاويل‏.‏ إنما هو قرآن كريم‏.‏ كريم بمصدره، وكريم بذاته، وكريم باتجاهاته‏.‏

‏{‏في كتاب مكنون‏}‏‏.‏‏.‏ مصون‏.‏‏.‏ وتفسير ذلك في قوله تعالى بعدها‏:‏ ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏‏.‏‏.‏ فقد زعم المشركون أن الشياطين تنزلت به‏.‏ فهذا نفي لهذا الزعم‏.‏ فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه‏.‏ إنما تنزل به الملائكة المطهرون‏.‏‏.‏ وهذا الوجه هو أظهر الوجوه في معنى ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏‏.‏ ف ‏{‏لا‏}‏ هنا نافية لوقوع الفعل‏.‏ وليست ناهية‏.‏ وفي الأرض يمس هذا القرآن الطاهر والنجس‏.‏ والمؤمن والكافر، فلا يتحقق النفي على هذا الوجه‏.‏ إنما يتحقق بصرف المعنى إلى تلك الملابسة‏.‏ ملابسة قولهم‏:‏ تنزلت به الشياطين‏.‏ ونفي هذا الزعم إذ لا يمسه في كتابه السماوي المكنون إلا المطهرون‏.‏‏.‏

ومما يؤيد هذا الاتجاه قوله تعالى بعد هذا‏:‏ ‏{‏تنزيل من رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏ لا تنزيل من الشياطين‏!‏

وقد روي حديثان يقرران معنى آخر‏.‏ وهو أن لا يمس القرآن إلا طاهر‏.‏‏.‏ ولكن ابن كثير قال عنهما‏:‏» وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره‏.‏ ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به‏.‏ وقد أسنده الدارقطني عن عمرو ابن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص‏.‏ وفي إسناد كل منهما نظر والله أعلم «‏.‏

ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة‏.‏‏.‏ لحظة الموت‏.‏‏.‏ اللمسة التي ترجف لها الأوصال‏.‏ واللحظة التي تنهي كل جدال‏.‏ واللحظة التي يقف فيها الحي بين نهاية طريق وبداية طريق‏.‏ حيث لا يملك الرجوع ولا يملك النكوص‏:‏

‏{‏أفبهذا الحديث أنتم مدهنون‏؟‏ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏.‏ فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون‏.‏ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون‏.‏ فلولا إن كنتم غير مدينين‏.‏ ترجعونها إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏‏.‏

أفأنتم شاكون في هذا الحديث الذي يقال لكم عن النشأة الآخرة؛ مكذبون بالقرآن وما يقصه عليكم من شأن الآخرة، وما يقرره لكم من أمور العقيدة‏؟‏ ‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏}‏‏.‏

‏.‏ فإذا التكذيب هو رزقكم الذي تحصلون عليه في حياتكم وتدخرونه لآخرتكم‏؟‏ وما أسوأه من رزق‏!‏

فماذا أنتم فاعلون إذ تبلغ الحلقوم، وتقفون في مفرق الطريق المجهول‏؟‏

ثم يصور الموقف التصوير القرآني الموحي، الذي يرسم ظلال الموقف كلها في لمسات سريعة ناطقة بكل ما فيه، وبكل ما وراءه، وبكل ما يوحيه‏.‏

‏{‏فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون‏.‏ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون‏}‏‏.‏‏.‏

لنكاد نسمع صوت الحشرجة، ونبصر تقبض الملامح، ونحس الكرب والضيق من خلال قوله‏:‏ ‏{‏فلولا إذا بلغت الحلقوم‏}‏‏.‏‏.‏ كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين من خلال قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم حينئذ تنظرون‏}‏‏.‏‏.‏

هنا‏.‏ في هذه اللحظة‏.‏ وقد فرغت الروح من أمر الدنيا‏.‏ وخلفت وراءها الأرض وما فيها‏.‏ وهي تستقبل عالماً لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئاً إلا ما أدخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر‏.‏

هنا‏.‏ وهي ترى ولا تملك الحديث عما ترى‏.‏ وقد انفصلت عمن حولها وما حولها‏.‏ الجسد هو الذي يراه الناظرون‏.‏ ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئاً‏.‏

هنا تقف قدرة البشر، ويقف علم البشر، وينتهي مجال البشر‏.‏

هنا يعرفون- ولا يجادلون- أنهم عجزة عجزة‏.‏ قاصرون قاصرون‏.‏

هنا يسدل الستار دون الرؤية‏.‏ ودون المعرفة‏.‏ ودون الحركة‏.‏

هنا تتفرد القدرة الإلهية، والعلم الإلهي‏.‏ ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال‏:‏

‏{‏ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون‏}‏ ‏!‏

وهنا يجلل الموقف جلال الله، ورهبة حضوره- سبحانه وتعالى- وهو حاضر في كل وقت‏.‏ ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر‏.‏ فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله‏.‏ فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع‏.‏

وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة يجيء التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال‏:‏

‏{‏فلولا إن كنتم غير مدينين‏:‏ ترجعونها إن كنتم صادقين‏!‏‏}‏

فلو كان الأمر كما تقولون‏:‏ إنه لا حساب ولا جزاء‏.‏ فأنتم إذن طلقاء غير مدينين ولا محاسبين‏.‏ فدونكم إذن فلترجعوها- وقد بلغت الحلقوم- لتردوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء‏.‏ وأنتم حولها تنظرون‏.‏ وهي ماضية إلى الدينونة الكبرى وأنتم ساكنون عاجزون‏!‏

هنا تسقط كل تعلة‏.‏ وتنقطع كل حجة‏.‏ ويبطل كل محال‏.‏ وينتهي كل جدال‏.‏ ويثقل ضغط هذه الحقيقة على الكيان البشري، فلا يصمد له، إلا وهو يكابر بلا حجة ولا دليل‏!‏

ثم يمضي السياق في بيان مصير هذه الروح الذي يتراءى لها من بعيد حين تبلغ الحلقوم، وتستدبر الحياة الفانية، وتستقبل الحياة الباقية‏.‏